فصل: تفسير الآيات رقم (63- 67)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إنك‏}‏ يا محمد ‏{‏لا تهدي من أحببتَ‏}‏، أي‏:‏ لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم، يعني‏:‏ أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق، ولو كان أكمل الخلق‏.‏ ‏{‏ولكنَّ الله يهدي من يشاء‏}‏؛ يخلق الهداية في قلب من يشاء، ‏{‏وهو أعلم بالمهتدين‏}‏؛ بمن يختار هدايته ويقبلها‏.‏

قال الزجاج‏:‏ اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته‏:‏ يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم وتَدعُها لنفسك‏!‏» فقال‏:‏ ما تريد يا ابن أخي‏؟‏ فقال‏:‏ «أُريدُ منك أن تقُول‏:‏ لا إله إلا الله، أشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللهِ» فقال‏:‏ يا ابن أخي؛ أنا قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت‏.‏ ه‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏(‏لولا أن تُعيرني نساء قريش، ويقلن‏:‏ إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك‏)‏‏.‏ وفي لفظ آخر عند البخاري‏:‏ قال له‏:‏ «يا عم، قُل‏:‏ لا إله إلا الله، أُحاجُّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية‏:‏ يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فقال‏:‏ بل على ملّة عبد المطلب، فنزلت الآية‏.‏

وفيها دليل على المعتزلة؛ لأنهم يقولون‏:‏ الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية؛ وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته، كتب شيخ أشياخنا، سيدي «أحمد بن عبد الله»، إلى شيخه، سيدي «أحمد بن سعيد الهبري»؛ يشكو له ابنه؛ حيث لم ير منه ما تقر به عينه، فكتب إليه‏:‏ أخبرني‏:‏ ما الذي بَنَيْتَ فيه‏؟‏ دع الدار لبانيها، إن شاء هدمها وإن شاء بناها‏.‏ ه‏.‏ وفي اللباب- بعد كلام-‏:‏ قد رضي الله على أقوام في الأزل، فاستعلمهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب‏.‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ الآية‏.‏

وهذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها‏:‏ ‏{‏إنك لا تَهْدي من أحببت‏}‏، والحكم عام في كل أحد، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل، حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة، ولم يَحْتَجْ لوسيلة، وليس في ذلك نظر، بل سابقة السعادة أيدته، والخصوصية قرَّبته، ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب، ومن الاستغفار لأبيه‏.‏ ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آزر، أو بيد محمد صلى الله عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب، جذبت العنايةُ سلمان من فارس، وصاحت على بلال من الحبشة، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول‏.‏ سبحان من أعطى ومنع، وضر ونفع‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏رزقاً‏)‏‏:‏ حال من ‏(‏الثمرات‏)‏؛ لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى؛ لأن معناه‏:‏ نرزق، أو‏:‏ مفعول له‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي‏:‏ كفار قريش ‏{‏إن نتبع الهُدَى‏}‏ وندخل ‏{‏معك‏}‏ في هذا الدين؛ ‏{‏نُتَخَطّفُ من أرضنا‏}‏ أي‏:‏ تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا‏.‏

نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أوَ لَمْ نُمكِّنْ لهم حَرَماً آمناً‏}‏؛ أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم؛ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام‏؟‏‏.‏

‏{‏تُجْبَى إليه‏}‏، أي‏:‏ تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، ‏{‏ثمراتُ كل شيء‏}‏ أي‏:‏ كل صنف ونوع‏.‏ ومعنى الكُلِّيَّةِ‏:‏ الكثرة؛ كقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏، ‏{‏رزقاً من لدُنَّا‏}‏، ونعمة من عندنا، وإذا كان حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد‏؟‏

‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي‏:‏ جهلة، لا يتفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته، إن أسلموا‏.‏ وقيل‏:‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏من لدُنَّا‏}‏، أي‏:‏ قليل منهم يتدبرون، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله؛ وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولو علموا أنه من عند الله؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول‏:‏ إن دخلنا في طريق القوم؛ رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا‏.‏ يقول تعالى لهم‏:‏ أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس؛ جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ‏(‏58‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «كم»‏:‏ منصوب بأهلكنا‏.‏ والبطر‏:‏ الطغيان عند النعمة‏.‏ قال في القاموس‏:‏ البَطَر- محركة‏:‏ النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل‏:‏ كفرح‏.‏ ه‏.‏ و‏(‏معيشتها‏)‏ نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي‏:‏ في معيشتها‏.‏ وجملة ‏(‏لم تسكن‏)‏‏:‏ حال، والعامل فيها‏:‏ الإشارة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وكم أهلكنا من قرية‏}‏، أي‏:‏ كثيراً أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها ‏{‏بَطِرَتْ‏}‏ في ‏{‏مَعِيشَتها‏}‏، أي‏:‏ طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان‏.‏ قال القشيري‏:‏ لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوهم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم‏.‏

‏{‏فتلك مساكنهم‏}‏ خاوية، أو‏:‏ فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار؛ كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، ‏{‏لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً‏}‏ من السكنى، أي‏:‏ لم يسكنها إلا المسافر، أو مار بالطريق؛ يوماً أو ساعة، ‏{‏وكنا نحن الوارثين‏}‏ لتك المساكن من سكانها، أي‏:‏ لا يملك التصرف فيها غيرنا‏.‏ وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار‏؟‏ والحاصل‏:‏ إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله في بالهلاك، وأما متبع الهدى؛ فهو آمن والعاقبة له‏.‏

‏{‏وما كان ربك‏}‏؛ وما كانت عادته ‏{‏مُهلك القرى‏}‏ بذنب ‏{‏حتى يبعث في أُمِّها‏}‏، أي‏:‏ القرية التي هي أصلها ومعظمها؛ لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل‏.‏ ‏{‏رسولاً‏}‏؛ لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو‏:‏ ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها‏.‏ ‏{‏رسولاً‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم، ‏{‏يتلوا عليهم آياتنا‏}‏؛ القرآن، ‏{‏وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلُها ظالمون‏}‏، أي‏:‏ وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «ما» شرطية، وجملة‏:‏ ‏(‏فمتاع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ‏:‏ جوابه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما أُوتيتم من شيءٍ‏}‏ من زهرة الدنيا ‏{‏فمتاعُ الحياة الدنيا وزينتُها‏}‏ أي‏:‏ ايُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياماً قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، ‏{‏وما عند الله‏}‏ من النعيم الدائم في الدار الباقية؛ ثواباً لأعمالكم ‏{‏خير‏}‏ من ذلك؛ لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة‏.‏ ‏{‏وأبقى‏}‏؛ لأنه دائم لا يفنى ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ أن الباقي خير من الفاني، فتستبدلون الذي هو أدنى يا الذي هو خير‏؟‏‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف؛ المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتربى، والكافر يتمتع‏.‏ ثم قرأ هذه الآية‏)‏‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو كانتِ الدنيا تَزِنُ عند الله جناحَ بعوضة لمى سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ» رواه الترمذي‏.‏

ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أفمن وعدناه وعداً حسنا‏}‏، وهو الجنة؛ إذ لا شيء أحسن منها، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم، ولأنها دائمة، ولذا سميت الحسنى، ‏{‏فهو‏}‏‏:‏ أي‏:‏ الوعد الحسن ‏{‏لاقيه‏}‏ ومدركه، لا محالة، لامتناع الخلف في وعده تعالى، ‏{‏كمن متعناه متاع الحياة الدنيا‏}‏ الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب،، مستعْقب بالفناء والانقطاع، ‏{‏ثم هو يوم القيامة من المحضَرين‏}‏ للحساب والعقاب، أو‏:‏ من الذين أحضروا النار‏.‏

والآية نزلت في المؤمن والكافر، أو‏:‏ في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل- لعنه الله-، ومعنى الفاء الأولى‏:‏ أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏أفمن وعدناه‏}‏ أي‏:‏ أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة‏؟‏ والفاء الثانية للتسبيب، لأنه لقاء الموعود مسبب عن الوعد‏.‏ و«ثم»‏:‏ لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «ثم هْو»؛ بالسكون، شبه المنفصل بالمتصل، كما قيل في عَضد- بسكون الضاد-‏.‏

‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يوم يُنادِيهم‏}‏؛ يوم ينادي الله الكفارَ، نداء توبيخ، ‏{‏فيقول أين شركائيَ‏}‏؛ في زعمهم ‏{‏الذين كنتم تزعمون‏}‏ أنهم شركائي، فحذف المفعول؛ لدلالة على الكلام عليه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية‏.‏ وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عند الله جناحَ بعوضة وفي حديث آخر‏:‏ «ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به» بالمعنى‏:‏ فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج‏.‏

مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال والأحزان والمتاعب‏.‏ وقد كتب علي بي أبي طالب إلى سلمان- رضي الله عنهما-‏:‏ «إن مثل الدنيا كمثل الحية، لينٌ مسها، قاتل سمها، فأعرض عنها، وعما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسرّ ما تكون منها، احذر ما تكون منها، فإن صاحبها، كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه»‏.‏

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها- أي‏:‏ لأنهما لا يدومان- ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى- أي‏:‏ الهلاك- وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها؛ لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين» ه‏.‏ ذكره ابن وداعة الموصلي‏.‏

وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا إلتاط منها بثلاث‏:‏ شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا الآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفك عذابها وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 67‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ‏(‏64‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «هؤلاء»‏:‏ مبتدأ‏.‏ و«الذين»‏:‏ صفته، والعائد‏:‏ محذوف، و«أغويناهم»‏:‏ خبر‏.‏

والكاف في «كما»‏:‏ صفة لمصدر محذوف، أي أغويناهم غياً مثل ما غوينا، و«لو أنهم»‏:‏ جوابه محذوف، أي‏:‏ لما رأوا العذاب‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قال الذين حقَّ عليهم القولُ‏}‏ بالعذاب، وثبت مقتضاه، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏، وهم الشياطين، أو‏:‏ أئمة الكفر‏:‏ ورؤساء الكفرة‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء‏}‏ الكفرة ‏{‏الذين أغوينا أغويناهم‏}‏ أي‏:‏ دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم، قد غَووا غياً ‏{‏كما‏}‏ مثل ما ‏{‏غَوَينا‏}‏ يقولون‏:‏ إنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولوموا أَنفُسَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏تبرَّأنا إليك‏}‏ منهم فيما اختاروه من الكفر، ‏{‏ما كانوا إيانا يعبدون‏}‏، بل كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شهواتهم‏.‏ فَتَحَصَّلَ من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غَرُّوا الضعفاء، وتبرؤوا من أن يكون آلهتهم، فلا تناقض‏.‏ انظر ابن جزي‏.‏ وإخلاء الجملتين من العاطف؛ لكونهما مقررتين للجملة الأولى‏.‏

‏{‏وقيل‏}‏ للمشركين‏:‏ ‏{‏ادعو شركاءَكم‏}‏ أي‏:‏ الأصنام؛ لتُخلصكم من العذاب، ‏{‏فَدَعَوْهُمْ فلم يستجيبوا لهم‏}‏، فلم يجيبوهم؛ لعجزهم عن الإجابة والنصرة‏.‏ ‏{‏ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ لَمَّا رأوا ذلك العذاب، وقيل‏:‏ «لو»؛ للتمني، أي‏:‏ تمنوا أنهم كانوا يهتدون‏.‏

‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يوم يُناديهم فيقولُ ماذا أجبتُمُ المرسلين‏}‏ الذي أُرسلوا إليكم‏؟‏ أي‏:‏ بماذا أجبتموهم‏؟‏ وهو أعلم بهم‏.‏ حكي، أولاً، ما يوبخهم به؛ من اتخاذهم له شركاء، ثم ما تقوله الشياطين، أو‏:‏ أئمة الكفر عند توبيخهم؛ لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين أو الرؤساء، استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم؛ لاستغائتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم‏.‏ ثم ما يُبَكَّتُونَ به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فعَمِيتْ عليهم الانبياء يومئذِ‏}‏؛ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار‏.‏ وقيل‏:‏ خفي عليهم الجواب، فلم يدروا بماذا يجيبون؛ إذ لم يكن عندهم جواب‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وأصله‏:‏ فعموا عن الانباء، لكنه عكس؛ مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء‏:‏ ما أجابوا به الرسل، أو‏:‏ ما يعمها وغيرَها، فإذا كانت الرسل يتلعثمون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، ويفوضون إلى علم الله تعالى؛ فما ظنك بالضلال من البُهم‏؟‏‏.‏

ه‏.‏

‏{‏فهم لا يتساءلون‏}‏؛ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب؛ لفرط الدهشة، أو‏:‏ عن العذر والحجة، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة‏.‏ ‏{‏فأما من تابَ‏}‏ من الشرك ‏{‏وآمَنَ‏}‏ بربه وبمن جاء من عنده، ‏{‏وعَمِلَ صالحاً‏}‏ أي‏:‏ جمع بين الإيمان والعمل، ‏{‏فعسى أن يكون من المفلحين‏}‏؛ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم‏.‏ و«عسى»، من الكِرام، تحقيق‏.‏ وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام، وترغيب للكافرين في الإيمان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الذين حق عليهم القول؛ بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم‏:‏ ربنا هؤلاء الذين أغوينا؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك؛ لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم‏.‏ ثم يقال لهم‏:‏ ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم؛ فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية؛ ما وقعوا في ذلك‏.‏ ويوم يناديهم فيقول‏:‏ ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وربك يخلقُ ما يشاءُ‏}‏، لا موجب عليه، ولا مانع له، وفيه دلالة على خلق الأفعال‏.‏ ‏{‏ويختارُ‏}‏ ما يشاء، لا اختيار لأحد مع اختياره‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وظاهره‏:‏ نفي الاختيار عنهم رأساً، والأمر كذلك عند التحقيق؛ فإنَّ اختبار العبد مخلوق لله، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها، وقيل‏:‏ المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه، فلذلك خلا عن العاطف، يعني قوله‏:‏ ‏{‏ما كان‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، ويؤيده‏:‏ ما روي أنه نزل في قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ ه‏.‏ ‏{‏ما كان لهم الخِيَرةُ‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما، وله الخيرة عليهم‏.‏ والخيرة‏:‏ من التخير، تستعمل مصدراً بمعنى التخير، وبمعنى المتخيّر، ومنه‏:‏ محمد خيرة الله من خلقه، ولم يدخل العاطف في ‏{‏ما كان لهم الخيرة‏}‏؛ لأنه مقرر لِمَا قبله، وقيل‏:‏ «ما»‏:‏ موصولة، مفعول بيختار، والراجع إليه‏:‏ محذوف، أي‏:‏ ويختار الذي كان لهم من الخيرة والصلاح‏.‏ ه‏.‏ وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال، ويجاب‏:‏ بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان‏.‏

‏{‏سبحان الله‏}‏، أي‏:‏ تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ‏.‏

‏{‏وتعالى عما يشركون‏}‏، أي‏:‏ تعاظم عن إشراكهم، أو‏:‏ عن مشاركة ما يُشركون به‏.‏

‏{‏وربك يعلم ما تُكِنُّ‏}‏ تُضمر ‏{‏صدورُهم‏}‏ من عداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام- وحسده، ‏{‏وما يُعلنون‏}‏ من مطاعنهم فيه، وقولهم‏:‏ هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة‏.‏ ‏{‏وهو الله‏}‏ المستأثر بالألوهية المختص بها، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏، تقرير له، كقولك‏:‏ الكعبة قبلة، لا قبلةَ إلا هي‏.‏ ‏{‏له الحمد في الأولى‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا، ‏{‏والآخرة‏}‏؛ لأنه المُولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة بقولهم‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏، ‏{‏الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏، ‏{‏وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة‏.‏ ‏{‏وله الحُكم‏}‏؛ القضاء بين عباده، ‏{‏وإليه تُرجعون‏}‏ بالبعث والنشور‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم‏:‏ «أراح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك؛ لا تقم به أنت عن نفسك»‏.‏ وقال سهل رضي الله عنه‏:‏ ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ ذروا التدبير وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا‏.‏ ه‏.‏

والتدبير المذموم‏:‏ هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحب تصميم؛ بأن كان عَزْمه محلولاً، أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به‏.‏

قال القشيري- بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى‏:‏ لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ؛ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم‏:‏

ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم *** لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ

والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار والاختيار‏؟‏‏!‏ وما للمملوكِ والمِلْك‏؟‏‏!‏ وما للعبيد في دَسْتِ الملوك‏؟‏‏!‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لهم الخيرة‏}‏‏.‏ ه‏.‏ وقال آخر في هذا المعنى‏:‏

العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ *** والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ

والخيرُ أجمعُ‏:‏ فيما اختار خالقنا *** وفي اختيارِ سواه‏:‏ اللومُ والشُّومُ

فإذا علمت، أيها العبد، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل‏:‏ العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى‏.‏ قال اللجائي في كتاب قطب العارفين‏:‏ الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولايصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، ‏{‏وربك يخلق ما يشاء ويختار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏سرمداً‏)‏‏:‏ مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي‏:‏ التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم‏:‏ ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه‏:‏ فعْمَل‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم‏}‏؛ أخبروني ‏{‏إن جعل الله عليكم الليلَ سرمداً‏}‏؛ دائماً؛ بإسكان الشمس تحت الأرض، أو بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، ‏{‏مَنْ إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بضياءٍ‏}‏، وحقه‏:‏ هل إله غير الله، وعبّر ب «مَن» على زعمهم أن غيره آلهة، أي‏:‏ هل يقدر أحد على هذا‏؟‏ ‏{‏أفلا تسمعون‏}‏ سماع تدبر واستبصار‏؟‏‏.‏

‏{‏قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهارَ سرمداً إلي يوم القيامة‏}‏ بإسكانها في وسط السماء، أو‏:‏ بتحريكها فوق الأفق فقط، ‏{‏مَنْ إِلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه‏}‏؛ استراحة من متاعب الأشغال‏؟‏ ولم يقل‏:‏ بنهارتتصرفون فيه، كما قال‏:‏ ‏{‏بليل تسكنون فيه‏}‏، بل ذكر الضياء، وهو ضوء الشمس؛ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، وليس هو التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس هو بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء‏.‏ ‏{‏أفلا تسمعون‏}‏؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل ‏{‏أفلا تُبصرون‏}‏؛ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه‏.‏

‏{‏ومن رحمته‏}‏ تعالى ‏{‏جَعَلَ لكم الليلَ والنهارَ لتسْكُنُوا فيه‏}‏؛ في الليل ‏{‏ولِتَبْتَغوا من فضله‏}‏ بالنهار بأنواع المكاسب‏.‏ وهو من باب اللف والنشر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون معناه‏:‏ لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى‏:‏ جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً؛ لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ أي‏:‏ ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها‏.‏

ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله‏:‏ ‏{‏ويومَ يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ وكرر التوبيخ على الشرك، ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ أعاد هذا؛ لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم‏.‏ ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي‏.‏ ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏، ويحتمل‏:‏ ولا يكلمهم بعد قوله‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ>‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ أو‏:‏ ولا يكلمهم كلام رضا‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ونزعنا‏}‏؛ وأخرجنا ‏{‏من كل أُمةٍ شهيداً‏}‏، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه؛ لأن الأنبياء شهداء على أممهم، ‏{‏فقلنا‏}‏ للأمم‏:‏ ‏{‏هاتوا برهانكم‏}‏ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، ‏{‏فعلموا‏}‏ حينئذٍ ‏{‏إن الحق لله‏}‏ في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، ‏{‏وضل عنهم‏}‏؛ غاب غيبة الشيء الضائع ‏{‏ما كانوا يَفترون‏}‏ من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم‏:‏ «بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه»‏.‏ وقال فارس رضي الله عنه‏:‏ القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «قارون»‏:‏ غير مصروف؛ للعجمة والتعريف، ولو كان «فاعولاً»؛ من قرنت الشيء، لا نصرف لخروجه عن العجمة‏.‏ ‏{‏إذ قال‏}‏‏:‏ ظرف لبَغَى أي‏:‏ طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو‏:‏ يتعلق بمقدر، أي‏:‏ أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه‏:‏ لا تفرح‏.‏ و«ما»‏:‏ موصولة، و«إنَّ مفاتحه»‏:‏ صلته، ولذلك كسرت‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إنَّ قارون كان من قوم موسى‏}‏ كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث‏.‏ وكان يسمى «المنور»؛ لحُسن صورته وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري‏.‏ ‏{‏فَبَغَى عليهم‏}‏، من البغي، أي‏:‏ الظلم‏:‏ قيل‏:‏ ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم‏.‏ أو‏:‏ من البغي، أي‏:‏ الكبر، أي‏:‏ تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده‏.‏

‏{‏وآتيناه من الكنوز ما‏}‏ الذي ‏{‏إنَّ مفاتِحَه‏}‏؛ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي‏:‏ إن مقاليده ‏{‏لَتَنُوءُ‏}‏ أي‏:‏ تثقل ‏{‏بالعُصْبَةِ‏}‏، الباء للتعدية، يقال‏:‏ ناء به الحمل‏:‏ أثقله حتى أماله‏.‏ والعصبة‏:‏ الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع‏.‏ وكانت من جلود، أي‏:‏ مغاليقها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى تنوء‏:‏ تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب؛ إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل‏:‏ وسميت أمواله كنوزاً؛ لأنه كان لايؤدي زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته‏.‏

‏{‏إذْ قال له قومُه لا تفرح‏}‏؛ لا تبطر بكثرة المال؛ فرَح إعجاب؛ لأنه يقود إلى الطغيان‏.‏ أو‏:‏ لا تفرح بالدنيا؛ إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، ‏{‏إن الله لا يُحب الفَرِحِين‏:‏‏}‏ البطرين المفتخرين بالمال، أو‏:‏ الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً؛ لأنه نتيجة حبها والرضا بها، والذهول عن ذهابها، قإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة، يوجب التوخي لا محالة، كما قيل‏:‏

أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرورٍ *** تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ

‏{‏وابتغِ فيما آتاك الله‏}‏ من المال والثروة ‏{‏الدارَ الآخرة‏}‏؛ بأن تتصدق على الفقراء تصل الرحم، وتصرفه في أنواع الخير، ‏{‏ولا تنس نصيبَكَ من الدنيا‏}‏، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ واطلب بدنياك آخرتك؛ فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات، أي‏:‏ لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة، ‏{‏وأحسنْ‏}‏ إلى عباد الله ‏{‏كما أحسن الله إليك‏}‏ فيما أنعم به عليك‏:‏ أو‏:‏ أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام‏.‏

‏{‏ولا تبغِ الفسادَ في الأرض‏}‏ بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي؛ ‏{‏إن الله لا يحب المفسدين‏}‏؛ لا يرضى فعلهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها بل الفرح بكل ما يَفنِي‏:‏ كُلُّهُ مذموم‏.‏ قال في الإحياء‏:‏ الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل يسري في العروق فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة وهذا هو موت القلب والعياذ بالله فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها وعودوا الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع عذاب ومن نوقش الحساب عُذّب فخلَصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته‏.‏ ه‏.‏

وقال يُمْن بن رزق‏:‏ اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب‏:‏ أنْسُ القلب بالوحدة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وهذا مذهب العباد والزهاد وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ قارون‏:‏ ‏{‏إنما أُوتيته‏}‏ أي‏:‏ المال ‏{‏على علم عندي‏}‏ أي‏:‏ على استحقاق مني، لِمَا فيّ من العلم الذي فَضلت به الناس، وهو علم التوراة، وكان أعلم الناس به بعد، موسى وهارون، وكان من العباد، ثم كفر بعد ذلك‏.‏ وذكر القشيري أنه كان منقطعاً في صومعة للعبادة، فصحبة إبليسُ على العبادة، واستمر معه على ذلك، وهو لا يشعر، إلى أن ألقى إليه‏:‏ إن ما هما عليه، من الانقطاع عن التكسب، وكون أمرها على أيدي الناس، ليس بشيء، فرده إلى الكسب بتدريج، إلى أن استحكم في حب الدنيا والجمع والمنع، ثم تركه‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به علم الكيمياء، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا‏.‏ أو‏:‏ العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة، أو‏:‏ العمل بكنوز يوسف‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يعلم أن الله قد أهلكَ مِنْ قبله من القرون مَنْ هو أشدُّ منه قوةً وأكثرُ جَمْعاً‏}‏، أي‏:‏ أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك؛ لأن قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ‏.‏ أو‏:‏ نفيٌ لعلمه بذلك؛ لأنه لَمَّا قال‏:‏ ‏{‏أُوتيته على علم عندي‏}‏؛ قيل له، أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين‏.‏

‏{‏ولا يُسْئل عن ذنوبهم المجرمون‏}‏، لعلمه تعالى بعملهم، بل يُدخلهم النار بغتة‏.‏

أو‏:‏ يعترفون بها بغير سؤال، أو‏:‏ يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو‏:‏ لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ هو كلام متصل بما قبله، والضمير في ‏(‏ذنوبهم‏)‏؛ عائد على من أهلك من القرون، أي‏:‏ أُهلكوا، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، بل كان أحد إنما يُعاتب على ما يخصه‏.‏ ه‏.‏ وإذ قلنا هو؛ في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون، ويومُ القيامة مواطن وطوائف‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه، أو لحوله وقوته، أو لكسبه ومجاهدته، بل يشهدها منَّةً من الله عليه، وسابق عناية منه إليه، قال سهل رضي الله عنه‏:‏ ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل رؤيةِ مِنَّةِ الله عليه، في جميع الأفعال والأقوال‏.‏ والشقي مَنّ زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحوالُه، ولا فتِحَ له سبيلُ رؤيةِ منَّةِ الله عليه، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون‏.‏ لَمّا ادعى لنفسه فضلاً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 82‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ‏(‏81‏)‏ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏في زينته‏)‏‏:‏ حال، ‏{‏ويْكَأنه‏}‏‏:‏ مذهب الخليل وسيبويه‏:‏ أن «وي»‏:‏ حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال‏.‏ وقال أبو حاتم وجماعة‏:‏ «ويك» هي «ويلك»؛ حذفت اللام منها؛ لكثرة الاستعمال‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ «ويكأن» بجملتها كلمة‏.‏ قاله الثعلبي، وقال البيضاوي‏:‏ ويكأن، عند البصريين، مركب من «وي»؛ للتعجب، و«كأن»، للتشبيه‏.‏ ه‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ «وي»‏:‏ كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ، يستعملها النادم لإظهار ندامته‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فخرج‏}‏ قارونُ ‏{‏على قومه في زينته‏}‏، قال جابر‏:‏ كانت زينته القرمز، وهو صبغ أحمر معروف‏.‏ قيل‏:‏ إنه خرج في الحمرة والصفرة، وقيل‏:‏ خرج يوم السبت على بغلة شهباء، عليها الأرْجُوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل‏:‏ عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والديباج‏.‏

‏{‏قال الذين يُريدون الحياةَ الدنيا‏}‏، قيل‏:‏ كانوا مسلمين، وإنما تمنوا، على سبيل الرغبة في اليسار، كعادة البشر، وقيل‏:‏ كانوا كفاراً، ويرده قوله‏:‏ ‏{‏لولا أن مَنّ الله علينا‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ ‏{‏يا ليت لنا مِثْلَ ما أُوتي قارونُ‏}‏ من المال والجاه، قالوه؛ غِبْطَةً‏.‏ والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له، دونه‏.‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تضر الغبطة‏؟‏ فقال‏:‏ «لا‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ ‏{‏إنه لذو حظٍ عظيم‏}‏ من الدنيا، والحظ‏:‏ الجَدُّ، وهو البخت والدولة‏.‏

‏{‏وقال الذين أُوتوا العلمَ‏}‏ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا، أو‏:‏ أتوا العلم بالله، فيؤخذ منه‏:‏ أن متمني الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس؛ إذ لا يتمناها إلا المحب لها، وهي رأس الفتنة‏.‏ فأيّ علم يبقى مع فتنة الدنيا‏؟‏‏!‏ قالوا في وعظهم لغابطي قارون‏:‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏؛ هلاكاً لكم، فأصل ويلك‏:‏ الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع على ترك ما لا يرضى‏.‏ وقال في التبيان في إعراب القرآن‏:‏ هو مفعول بفعل محذوف، أي‏:‏ ألزمتكم الله ويلكم، ‏{‏ثوابُ الله‏}‏ في الآخرة، ‏{‏خير لمن آمن وعَمِلَ صالحاً‏}‏ مما أوتي قارون، بل من الدنيا وما فيها، ‏{‏ولا يُلقَّاها‏}‏ أي‏:‏ لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، ‏{‏إلا الصابرون‏}‏‏.‏ أو‏:‏ لا يلقى هذه القوة والعزيمة في الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا‏.‏

وفي حديث الترمذي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ترك اللباس- أي‏:‏ الفاخر-؛ تواضعاً لله تعالى، وهو يَقْدِرُ عليه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا»

وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال؛ بيتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ» أي‏:‏ ليس معه إدام‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فخسفنا به‏}‏؛ بقارون ‏{‏وبداره الأرض‏}‏، كان قارون يؤدي موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه؛ للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه‏:‏ على كل ألف دينار دينارٌ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ، فحاسبه فاستكثره، فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال له‏:‏ قد أطعتم موسى في كل شيء، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا‏:‏ أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت، قال‏:‏ نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار، أو‏:‏ طستاً من ذهب، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال‏:‏ من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه، فقال قارون‏:‏ وإن كنتَ أنتَ‏؟‏ قال‏:‏ وإن كنتُ أنا، قال‏:‏ فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت‏:‏ جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال‏:‏ اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ مُر الأرض بما شئت فيه، فإنها مطيعة لك، فقال‏:‏ يا بني إسرائيل‏:‏ إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعاً غير رَجُلَيْن‏.‏ ثم قال‏:‏ يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال‏:‏ خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارونُ وأصحابه يتضرعون إلى موسى، ويناشدونه بالله وبالرحم، وموسى لا يلتفت إليهم؛ لشدة غضبه، ثم قال‏:‏ خذيهم، فانطبقت عليهم‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏ يا موسى؛ استغاث بك مراراً فلم ترحمه، فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته‏.‏

رُوي أنه يخسف كل يوم قامة، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال بعض بني إسرائيل‏:‏ إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه، وأوحى الله تعالى إلى موسى‏:‏ إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً، أي‏:‏ لا آمرها تطيع أحداً بعدك‏.‏

‏{‏فما كان له من فئة‏}‏؛ جماعة ‏{‏ينصرونه من دون الله‏}‏؛ يمنعونه من عذاب الله ‏{‏وما كان من المنتصرين‏}‏ من عذاب الله، أو‏:‏ من المنتقمين من موسى‏.‏

‏{‏وأصبح‏}‏ أي‏:‏ وصار ‏{‏الذين تمنَّوا مكانَه‏}‏ أي‏:‏ منزلته من الدنيا ‏{‏بالأمس‏}‏‏:‏ متعلق بتمنوا‏.‏ ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت القريب، استعارة‏.‏ ‏{‏يقولون ويْكأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدرُ‏}‏ أي‏:‏ أعجب مما صنع بقارون؛ لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، وهو عنده ممقوت، ‏{‏ويقدر‏}‏ أي‏:‏ يضيقه على من يشاء، وهو عنده محبوب‏.‏

‏{‏لولا أن مَنَّ الله علينا‏}‏؛ بصرف ما كنا نتمناه بالأمس، ‏{‏لخسف بنا‏}‏ معه، كما فعل بالرجلين ‏{‏ويْكأنه لا يُفلح الكافرون‏}‏ أي‏:‏ اعجب لعدم فلاح الكافرين‏.‏ قال الرضي‏:‏ كأنه المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون، فقال له‏:‏ عجباً منك، فسئل‏:‏ لم تتعجب منه‏؟‏ فقال‏:‏ إنه لا يفلح الكافرون، فحذف حرف الجار‏.‏ وقال ابن عزيز‏:‏ ويكأن الله معناه‏.‏ ألم تر أن الله‏.‏ واقتصر عليه البخاري‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها‏.‏ ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها‏.‏ قال الشيخ العارف؛ سيدي عبد الرحمن بن يوسف اللجائي في كتابه‏:‏ اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه‏.‏ وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم‏.‏ وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الذين يريدون الحياة الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون‏.‏ واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين؛ فإن القلب إذا لم يقنع لو ملك الدنيا بحذافيرها لم يشبع‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين‏.‏ ه‏.‏ ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا‏:‏

إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا *** فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ

رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا *** وَسَخَّرَ النَّاسَ؛ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ

حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه *** وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ

رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ *** ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏83‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏تلك‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏نجعلها‏)‏‏:‏ خبر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏تلك الدارُ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ تلك الدار التي سمعْت بذكرها، وبلغت خبرها‏.‏ وعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، ‏{‏نجعلها للذين لا يُريدون علواً في الأرض‏}‏ أي‏:‏ تكبراً وقهراً كحال فرعون، ‏{‏ولا فساداً‏}‏؛ عملاً بالمعاصي، أو ظلماً على الناس، كحال قارون، أو قتل النفس، أو‏:‏ دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك بالفعل أم لا‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحيه، فيدخل تحتها‏.‏ وعن الفضيل‏:‏ أن قرأها، ثم قال‏:‏ ذهبت الأماني ها هنا وعن عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض‏.‏ ‏{‏والعاقبة‏}‏ المحمودة ‏{‏للمتقين‏}‏ ما لا يرضاه الله؛ من العلو والفساد وغير ذلك‏.‏

‏{‏ومن جاء بالحسنة فله خيرٌ منها‏}‏ ذاتاً وقدراً ووصفاً، ‏{‏ومن جاء السيئة‏}‏؛ مالا يرضاه الله تعالى، ‏{‏فلا يجزى الذين عملوا السيئات‏}‏، أصله‏:‏ فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر؛ لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، ‏{‏إلا ما كانوا يعملون‏}‏؛ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة‏.‏

الإشارة‏:‏ جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة- وهي الوصول إلى الحضرة- للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم‏:‏ «ادفن نفسك في أرض الخمول؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ»‏.‏ قال في التنبيه‏:‏ لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هي مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ‏.‏ ه‏.‏

وكان شيخ شيخنا يقول‏:‏ نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه‏.‏ ه‏.‏ وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه‏:‏ ما صدق الله من أحب الشهرة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل‏.‏ وقال أيوب رضي الله عنه‏:‏ ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه‏.‏ وقال في القوت‏:‏ ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق؛ لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه‏.‏ فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع‏.‏ وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما‏.‏

فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب‏.‏ ثم قال‏:‏ ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه؛ لأن ذلك عيش نفسه‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مقام من المقامات، والعارف الكالم لا يتغير قلبه على فقد شيء؛ إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، ‏(‏مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ‏)‏‏.‏ والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏85‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ولا يصدنك‏)‏‏:‏ مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏إن الذي فَرَضَ عليك القرآن‏}‏ أي‏:‏ أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، ‏{‏لرادُّك إلى معاد‏}‏ عظيم، وهو المعاد الجسماني؛ لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم‏.‏ أو‏:‏ لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها؛ لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره؛ لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد؛ لغلبته- عليه الصلاة والسلام- ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه‏.‏

والسورة مكية، لكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها‏.‏

ولما وعده بالنصر قال له‏:‏ ‏(‏قل ربي أعلم من جاء بالهُدى أي‏:‏ يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني نَفْسَهْ صلى الله عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، ‏{‏ومن هو في ضلال مبين‏}‏؛ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم‏.‏

‏{‏وما كنتَ ترجو أن يُلقى‏}‏؛ يوحي ‏{‏إليك الكتابُ‏}‏ أي‏:‏ القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه؛ كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، ‏{‏إلا من رحمةً من ربك‏}‏، لكن ألقاه إليك، رحمة منه إليك، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى كأنه قال‏:‏ وما أُلْقِيَ إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ‏{‏فلا تكونن ظهيراً‏}‏؛ معيناً ‏{‏للكافرين‏}‏ على دينهم؛ بمُداراتهم والتحمل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم‏.‏

‏{‏ولا يَصُدُّنَّك عن آيات الله‏}‏ أي‏:‏ لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، ‏{‏بعد إذ أُنزلت إليك‏}‏ أي‏:‏ بعد وقت إنزالها، و‏{‏إذ‏}‏‏:‏ مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك‏:‏ حينئذٍ ويَومَئذٍ‏.‏ ‏{‏وادعُ إلى ربك‏}‏؛ إلى توحيده وعبادته، ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏، نهاه، تنفيراً لغيره من الشرك‏.‏

‏{‏ولا تَدْعُ مع الله إلهاً آخر‏}‏، قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه‏.‏ قال البيضاوي‏.‏ وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏:‏ استئناف، مقرر لِمَا قبله، ‏{‏كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجْهَهُ‏}‏ أي‏:‏ ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي‏:‏ لكل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى‏.‏ قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه‏:‏ يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال‏:‏ ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار‏.‏ ه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش‏.‏

‏{‏له الحُكْمُ‏}‏؛ القضاء النافذ في خلقه، ‏{‏وإليه تُرجعون‏}‏؛ للجزاء والفصل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها‏:‏ إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية؛ فيقولون‏:‏ ‏{‏ربي أعلم‏}‏ الآية‏.‏‏.‏ وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي‏:‏ لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي‏:‏ إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي‏:‏ معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه‏:‏ إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى *** إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال

فَالْكُلُّ، دون اللهِ إِن حَقَّقْتَهُ *** عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ

وَاعلَمْ بأنَّكَ والعَوالِمَ كُلَّها *** لَوْلاَهْ فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ

مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ *** فَوُجُودُهُ، لولاه عَيْنُ مُحَالِ

فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا *** شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ

وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً *** فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال

وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ‏.‏

سورة العنكبوت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الحسبان‏:‏ قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما‏.‏ والعلم‏:‏ هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول‏:‏ حَسِبْتُ زيداً وظننت الفرس بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً‏.‏ والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يفتنون‏}‏ أي‏:‏ أحسبو تركهم غير مفتونين لأن يقولوا‏:‏ آمنا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏الم‏}‏‏:‏ الألف‏:‏ لوحدة أسرار الجبروت، واللام‏:‏ لفيضان أنوار الملكوت، والميم‏:‏ لاتصال المادة بعالم الملك‏.‏ فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره؛ ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏أحَسِبَ الناسُ‏}‏ أي‏:‏ أظن الناس ‏{‏أن يُتركوا‏}‏ غير- مفتونين ومختَبَرِين، ‏{‏أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون‏}‏؛ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه؛ ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف؛ من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق؛ ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان على خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب، وما ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان‏.‏

رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين‏.‏ فزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده؛ اختباراً لهم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد فتنَّا الذين مِنْ قبلهم‏}‏ بأنواع المحن؛ فمنهم من كان يُوضع المناشر على رأسه، فَيُفْرَقُ فرقتين، وما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد، ومنهم من كان يُطرح في النار، وما يصده ذلك عن دينه‏.‏ ‏{‏فليعْلَمَنَّ اللهُ‏}‏ بذلك الامتحان ‏{‏الذين صَدَقُوا‏}‏ في الإيمان بالثبات، ‏{‏وليعلمنَّ الكاذبين‏}‏ بالرجوع عنه‏.‏ ومعنى علمه تعالى به، أي‏:‏ علم ظهور وتمييز‏.‏ والمعنى‏:‏ ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب، في الدنيا والآخرة‏.‏ قال ابن عطاء‏:‏ يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الدنيا، وجزع في أيام البلاء، فهو من الكاذبين‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ سُنَّة الله تعالى في أوليائه‏:‏ أن يمتحنهم في البدايات، فإذا تمكنوا من معرفة الله، وكمل تهذيبهم، أعزهم ونصرهم، وأظهرهم لعباده‏.‏ ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه على ذلك؛ وهم عرائس الملكوت، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه‏.‏

والامتحان يكون على قدر المقام، وفي الحديث‏:‏ «أشدُّ الناسِ بلاءً‏:‏ الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ، فإن كان في دينه صُلْباً اشتد بلاؤُهُ وإن كان في دينِه رقَّةٌ ابتلى على قَدرِ دينِه فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة»‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا‏:‏ نبي أو صفي» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أشدُّ الناس بلاءً‏:‏ الأنبياءُ، ثم الصالحون‏.‏ لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء» من الجامع‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏4‏)‏ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين يعملون السيئات‏}‏ أي‏:‏ الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين، ‏{‏أن يسبقونا‏}‏ أي‏:‏ يفوتونا، بل يلحقهم الجزاء لا محالة‏.‏ و«أم»‏:‏ منقطعة، ومعنى الإضراب فيها‏:‏ أن هذا الحسبان أَبْطَلُ من الحسبان الأول، لأن ذلك يظن أنه لا يُمْتَحَنُ لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يُجَازَى بمساوئه، وشبهته أضعف، ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏ساءَ ما يحكمون‏}‏، أي‏:‏ بئس ما يحكمون به حكمهم في صفات الله أنه مسبوق، وهو القادر على كل شيء، فالمخصوص محذوف‏.‏

ثم ذكر الحامل على الصبر عند الإمتحان، وهو رجاء لقاء الحبيب، فقال‏:‏ ‏{‏من كان يرجو لقاء الله‏}‏ أي‏:‏ يأمل ثوابه، أو يخاف حسابه، أو ينتظر رؤيته، ‏{‏فَإِنَّ أَجَلَ الله‏}‏ المضروب للغاية ‏{‏لآتٍ‏}‏ لا محالة‏.‏ وهو تبشير بأن اللقاء حاصل؛ لأنه لأجل آت، وكل آت قريب‏.‏ وكل غاية لها انقضاء، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله‏.‏ ‏{‏وهو السميعُ‏}‏ لما يقوله عباده، ‏{‏العليمُ‏}‏ بما يفعلونه، فلا يفوته شيء‏.‏

‏{‏ومن جاهَدَ‏}‏ نفسه، بالصبر على مشاق الطاعات، ورفض الشهوات، وإذاية المخلوقات، وَحَبَسَ النفس على مراقبة الحق في الأنفاس واللحظات، ‏{‏فإِنما يُجاهدُ لنفسه‏}‏؛ لأن منفعة ذلك لها، ‏{‏إن لله لغنيٌ عن العالمين‏}‏ وعن طاعاتهم ومجاهدتهم‏.‏ وإنما أمر ونهي؛ رحمة لهم، ومراعاة لصلاحهم‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنَّ عنهم سيئاتهم‏}‏ أي‏:‏ الشرك والمعاصي؛ بالإيمان والتوبة، ‏{‏ولنجزينهم‏}‏ مع غنانا عنهم، ‏{‏أحسنَ الذين كانوا يعملون‏}‏ أي‏:‏ أحسن جزاء أعمالهم؛ بالفضل والكرم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أم حسب الذين يُنكرون على أوليائي، المنتسبين إليّ، أن يسبقونا‏؟‏ بل لا بد أن نعاقبهم في الدنيا والآخرة، إما في الظاهر؛ بمصيبة تنزل بهم، أو في الباطن، وهو أقبح، كقساوة في قلوبهم، أو‏:‏ كسل في بدنهم، أو‏:‏ شك في يقينهم، أو‏:‏ بُعد من ربهم، فإن من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب‏.‏ ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذَون في جانبه، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا، وهو الوصول إلى حضرته، والتنعم بقربه ومشاهدته، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم، وهو الغَنِي بالإطلاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «وصى» حُكمه حُكْمُ «أَمَرَ»، يقال وصيت زيداً بان يفعل خيراً، كما تقول‏:‏ أمرته بأن يفعل خيراً، ومنه‏:‏ ‏{‏ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏، أي‏:‏ أمرهم بكلمة التوحيد ووصاهم عليها‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسانَ بوالديه‏}‏؛ أمرناه بإيتاء والديه ‏{‏حُسْناً‏}‏ أي‏:‏ فعلاً ذا حُسْنٍ، أو‏:‏ ما هو في ذاته حُسن، لفرط حسنه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ أو‏:‏ وصينا الإنسان بتعاهد والديه، وقلنا له‏:‏ أحسن بهما حسناً، أو أوْلِهِمَا حُسْناً‏.‏ ‏{‏وإِن جاهداك‏}‏ أي‏:‏ حملاك بالمجاهدة والجد ‏{‏لتُشرك بي ما ليس لك به علم‏}‏ أي‏:‏ لا علم لك بالإلهية، والمراد نَفْيُ العلم نَفْيُ المعلوم، وكأنه قيل‏:‏ لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً، وقيل‏:‏ ما ليس لك به حجة؛ لأنها طريق العلم، فهو قوله‏:‏ ‏{‏لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏، بل هو باطل عقلاً ونقلاً، ‏{‏فلا تُطعمها‏}‏ في ذلك؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏.‏

‏{‏إليّ مرجعُكُم‏}‏، من آمن منكم ومن أشرك، ‏{‏فأُنبئُكم بما كنتم تعملون‏}‏؛ فأُجازيكم حق جزائكم‏.‏ وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الدين‏.‏ رُوي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، نذرت أمه ألا تأكل ولا تشرب حتى يرتد، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان ‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 15‏]‏‏.‏

‏{‏والذين آمنوا‏}‏؛ ثبتوا على الإيمان ‏{‏وعملوا الصالحات لنُدخِلنّهم في الصالحين‏}‏ أي‏:‏ في جملتهم، والصلاح مِن أبلغ صفة المؤمنين، وهو متمني الأنبياء، فقال سليمان عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏ أو‏:‏ في مدخل الصالحين، وهو الجنة‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وصى الله تعالى بطاعة الوالدين في كل شيء، إلا في شأن التوحيد والتخلص من الشرك الجلي والخفي، فإن ظهر شيخ التربية ومنع الوالدان ولدَهما من صحبته، ليتطهر من شركه، فلا يُطعمها، وسيأتي في لقمان دليل ذلك، إن شاء الله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏، فيدخل في جملة المسلمين، ‏{‏فإِذا أُوذي في الله‏}‏ أي‏:‏ مسّه أذىً من الكفرة؛ بأن عذبوه على الإيمان، ‏{‏جعل فتنةَ الناسِ كعذابِ الله‏}‏ أي‏:‏ جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، فَيُصْرَفْ عن الإيمان، ‏{‏ولئن جاء نصرٌ من ربك‏}‏؛ فتح أو غنيمة، ‏{‏ليقولن إنا كنا معكم‏}‏ أي‏:‏ متابعين لكم في دينكم، ثابتين عليه بثباتكم، فأعطونا نصيباً من المغنم‏.‏ والمراد بهم‏:‏ المنافقون، أو‏:‏ قوم ضعف إيمانهم فارتدوا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَيس الله بأعلمَ بما في صدور العالمين‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم بما في صدور العالمين‏.‏ ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق، وما في صدور المؤمنين‏.‏ من الإخلاص‏.‏

الإشارة‏:‏ منافق أهل الإيمان هو الذي يظهر الإيمان في الرخاء ويرجع عنه في الشدة، ومنافق الصوفية هو الذي يظهر الانتساب في السعة والجمال، فإذا وقع البلاء والاختبار بأهل النسبة خرج عنهم، فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بالقطيعة والحجاب، ولئن جاء لأهل النسبة نصر وعز، ليقولن‏:‏ إنا كنا معكم‏.‏ وقد رأينا كثيراً من هذا النوع، دخلوا في طريق القوم، فلما قابلتهم نيران التعرف والامتحان؛ رجعوا القهقرى، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان، وعند الحَمْلَةِ يتميز الجبان من الشجاع‏.‏

قال القشيري‏:‏ المحن تُظْهِرُ جواهرَ الرجال، وتَدُلُّ على قيمتهم وأقدارهم‏.‏ ثم من كانت محنته من فوات الدنيا، أو نقص نصيبه فيها، أو بموت قريب أو فَقْد حبيب، فحقيرٌ قدره، وكثيرٌ في الناس مثله‏.‏ ومن كانت محنته في الله ولله، فعظيم قدره، وقليل مثله، في العدد قليل، ولكن في القدر والخطر جليل‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ معنى كلامه‏:‏ أن العامة يمتحنهم الله ويختبرهم بذهاب حظوظهم وأحبابهم، فإن جزعوا فقدرهم حقير، وإن صبروا فأجرهم كبير، وأما الخاصة فيمتحنهم الله بسبب نسبتهم إلى الله، وإقبالهم عليه، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فَيُؤْذَوْنَ في جانب الله، فمنهم من يُسجن، ومنهم من يُضرب، ومنهم من يُجلى من بلده، فهؤلاء قدرهم عند الله كبير‏.‏ ثم قال‏:‏ والمؤمن مَنْ يكفُّ الأذى، والولي من يتحمل من الناس الأذى، من غير شكوى، ولا إظهار دعوى‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ من صناديد قريش، ‏{‏للذين آمنوا اتَّبِِعُوا سبيلَنَا‏}‏ الذي نسلكه، وهو الدخول في ديننا، ‏{‏وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ إن كان ذلك خطيئة في زعمكم‏.‏ أمروهم باتباع سبيلهم، وهي طريقتهم التي كانوا عليها، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول‏.‏ والمعنى‏:‏ تعليق الحمل بالاتباع، أي‏:‏ إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم‏.‏ وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم‏:‏ لا نُبعث نحن ولا أنتم، فإن كان ذلك فإنا نحمل عنكم الإثم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هم بحاملين من خطاياهم من شيءٍ‏}‏ أي‏:‏ ما هم حاملين شيئاً من أوزارهم، ‏{‏إنهم لكاذبون‏}‏ فيما ادعوا؛ لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يَعِدُون الشيء وفي قلوبهم نية الخُلْف‏.‏ ‏{‏وليَحْمِلُنَّ أثقالهم‏}‏ أي‏:‏ أثقال أنفسهم بسبب كفرهم، ‏{‏وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏ أي‏:‏ أثقالاً أُخر غير التي ضمنوا للمؤمنين حملَها، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم، كقولهم‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏، ‏{‏وَلَيُسْأَلُنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون‏}‏ من الأكاذيب والأباطيل التي ضلوا بها‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من عاق الناس عن الدخول في طريق التصفية والتخليص‏:‏ تَصْدُقُ عليه هذه الآية، فيتقلد بحمل نقائصهم ومساوئهم التي بقيت فيهم، فيحاسب عليها وعلى مساوئ نفسه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ الله ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلَبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً‏}‏ يدعوهم إلى الله، وهم يؤذونه بالشتم والضرب حتى نُصر، فاصبر كما صبر، فإن العاقبة للمتقين‏.‏

رُوي أنه عاش ألفاً وخمسين سنة وقيل‏:‏ إنه ولد في حياة آدم وآدم يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً‏.‏ وقيل‏:‏ إلا أربعين‏.‏ ذكره الفاسي في الحاشية‏.‏ والمشهور‏:‏ أن بينه وبين آدام نحو العشرة آباء‏.‏ وروي أنه بُعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين‏.‏ وعاش بعد الطوفان ستين‏.‏ وعن وَهْبٍ أنه عاش في عمره ألفاً وأربعمائة، وقيل‏:‏ وستمائة، فقال له ملك الموت‏:‏ يا أطول الأنبياء عمراً؛ كيف وجدت الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ كَدَارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر‏.‏ ولم يقل‏:‏ تسعمائة وخمسين سنة، لأنه، لو قيل ذلك، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل هنا، وكأنه قيل‏:‏ تسعمائة وخمسين كاملة وافية العدد‏.‏ مع أن ما ذكره الحق أسلس وأعذب لفظاً، ولأن القصة سيقت لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته، وما كابده من طول المصابرة؛ تسليةً لنبينا- عليه الصلاة والسلام- فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض‏.‏ وَجِيءَ، أولاً‏:‏ بالسّنةِ ثم بالعام؛ لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة‏.‏

‏{‏فأخذهم الطوفانُ‏}‏؛ طوفان الماء، وهو ما طاف وأحاط، بكثرة وغلبة، من سيل، أو ظلام ليلٍ، أو نحوها، ‏{‏وهم ظالمون‏}‏ أنفسهم بالكفر والشرك، ‏{‏فأنجيناه وأصحابَ السفينة‏}‏، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، أولاد نوح‏:‏ سام، وحام، ويافث، ونساؤهم، ومَنْ آمَنَ مِنْ غَيْرِهِمْ، ‏{‏وجعلناها‏}‏ أي‏:‏ السفينة، أو الحادثة، أو القصة، ‏{‏آيةً‏}‏؛ عبرة وعظة ‏{‏للعالَمين‏}‏ يتعظون بها‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما سُلى به الأنبياء يُسَلّى بِهِ الأولياء، فكل من أُوذي في الله، او لحقته شدة من شدائد الزمان، فليعتبر بمن سلف قبله من الأكابر، ويتسلى بهم، ولينظر إلى لطف الله وبره وإحسانه، فإن لطفه لا ينفعك عن قدره‏.‏ قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ العارف هو الذي يغرق إساءته في إحسان الله إليه، ويغرق شداد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه؛ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏إبراهيم‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏نوح‏)‏، أو متعلق باذكر، و‏(‏وإذ قال‏)‏‏:‏ ظرف زمان لأرسلنا، أو‏:‏ بدل اشتمال من ‏(‏إبراهيم‏)‏؛ إِنْ نُصِبَ باذكر، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإِبراهيمَ‏}‏ أي‏:‏ وأرسلنا إبراهيم ‏{‏إذ قال لقومه‏}‏ أي‏:‏ أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره، وبلغ من السن والعلم مبلغاً صَلَحَ فيه لأن يعظ قَوْمَهُ، وَيَأَمُرَهُمْ بالعبادة والتقوى‏.‏ وقرأ النخعي وأبو حنيفة‏:‏ بالرفع‏.‏ أي‏:‏ ومن المرسلين إبراهيم، قال في وعظه‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم‏}‏ مما أنتم عليه من الكفر، ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏؛ إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم‏.‏

‏{‏إنما تعبدون من دون الله أوثاناً‏}‏؛ أصناماً ‏{‏وتخلُقُون‏}‏‏:‏ تختلفون وتكذبون، أو تصنعون أصناماً بأيديكم تسمونها آلهة‏.‏ وقرأ أبو حنيفة والسُّلَمِي‏:‏ «وَتُخَلِّقُونَ» بالكسر والشد‏.‏ من خَلَّقَ؛ للمبالغة‏.‏ ‏{‏إفكاً‏}‏‏:‏ وقرئ «أَفِكاً» بفتح الهمزة، وهو مصدر، نحو كذب ولعب‏.‏ واختلاقهم الإفك‏:‏ تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله‏.‏

‏{‏إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً‏}‏‏:‏ لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، ‏{‏فابتغوا عند الله الرزقَ‏}‏ كُلَّه؛ فإنه هو الرزاق وحده، لا يرزق غَيْرُهُ‏.‏ ‏{‏واعبدوه واشكروا له‏}‏ أي‏:‏ متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين لما خصكم به من النعم بشكره ‏{‏إليه تُرجعون‏}‏ فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، ‏{‏وإِن تُكذِّبوا‏}‏ أي‏:‏ تكذبوني ‏{‏فقد كَذَّبَ أُمَمٌ من قبلكم‏}‏ رُسُلَهم، ‏{‏وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏ الذي يزول معه الشك‏.‏ والمعنى‏:‏ وأن تكذبوني فلا تضرونني بتكذيبكم؛ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم العذابُ‏.‏ وأما الرسول فقد أدى ما عليه حين بلغَ البلاغَ المبين، الذي لم يبق معه شك، حيث اقترن بآيات الله معجزاته‏.‏ أو‏:‏ وإن كنت مُكَذِّباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة حيث كُذَّبُوا وعلى الرسول أن يُبَلِّغَ، وما عليه أن يصدَّق ولايكذّب‏.‏

وهذه الآية من قوله‏:‏ ‏{‏وإِن تُكذِّبوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فما كان جواب قومه‏}‏‏:‏ يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمراد بالأمم قبله‏:‏ قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وأن تكون من كلام الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشأن قريش، مُعْتَرِضَةً بين أول قصة إبراهيم وآخرها‏.‏ فإن قلت‏:‏ الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت؛ معترضة فيه؛ فلا تقول‏:‏ مكة، وزيد قائم، خير بلاد الله‏؟‏ قلت‏:‏ قد وقع الاتصال، وبيانه‏:‏ أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباهُ إبراهيم كان مبتلى بنحو ما ابتلى به؛ من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله‏:‏ ‏{‏وإِن تُكذِّبوا‏}‏ يا معشر قريش محمداً، فقد كذب إبراهيمَ قومُه، وكل أمة كذبت نبيها لأن قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذّب أمم مِن قبلكم‏}‏ لا بد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الأيات بعدها من توابعها؛ لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك، وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضح صحته وبرهانه‏.‏

قاله النسفي‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ ‏{‏وإن تُكذِّبوا‏}‏ يحتمل ان يكون وعيداً للكفار وتهديداً لهم، أو يراد به تسلية النبي عن تكذيب قومه، بالتأسي بغيره من الأنبياء الذين كذّبهم قومُهم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابتغوا عند الله الرزق‏}‏؛ قال سهل رضي الله عنه‏:‏ معناه‏:‏ اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب؛ فإن طلب بالكسب سبيل العوام‏.‏ وقال ابن عطاء الله‏:‏ اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وقدَّم ابتغاء الرزق؛ لتوقف القيام بالعبادة عليه، ثم أمر بالشكر على الكفاية‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ يقال‏:‏ بدأ الله الخلق، وأبداه‏:‏ بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يُعيده‏)‏‏:‏ عطف على الجلمة، لا على ‏(‏يبدئ‏)‏؛ لأن رؤية البداءة بالمشاهدة بخلاف الإعادة، فإنها تُعْلَمُ بالنظر والاستدلال، وهم لا يقرونها، لعدم النظر‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه يريد إعادة النبات وإبداءه، وعلى هذا تكون ‏(‏ثم يعيده‏)‏‏:‏ عطفاً على ‏(‏يبدئ‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَلَم يروا‏}‏ أي‏:‏ كفار قريش ‏{‏كيف يُبدىءُ اللهُ الخلقَ‏}‏ أي‏:‏ يظهره من العدم، أي‏:‏ قد رأوا ذلك وعلموه، ‏{‏ثم يُعيده‏}‏ بالبعث؛ للجزاء بالعذاب والثواب‏.‏

قال القشيري‏:‏ الذي دَاخَلَهم في الشكُّ هو بعث الخلَق، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من فصول السنة بعد نقضها، وإعادتها على الوجه الذي كان في العام الماضي‏.‏ وكما أن ذلك سائغٌ في قدرته، كذلك بُعث الخلق‏.‏ ه‏.‏ ونحوه لابن عطية وغيره‏.‏ كما هو مشهود في الثمار، من كونها تبدأ، فتجنى، ثم تفنى، ثم تعيدها مرة أخرى‏.‏ وكذلك يبدئ خلق الإنسان، ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً آخر، وكذا سائر الحيوان‏.‏ وهذا يرشح صحة عطف «يعيد» على «يبدئ»‏.‏ ‏{‏إن ذلك على الله يسيرٌ‏}‏ أي‏:‏ الإعادة بعد الإفناء يسيرة على قدرة الله تعالى‏.‏

‏{‏قُلْ سيروا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد، وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره‏:‏ وأوحينا إليه أن قل‏:‏ سيروا في الأرض، ‏{‏فانظروا كيف بدأَ الخلقَ‏}‏ على كثرتهم، واختلافْ أحوالهم والسنتهم وألوانهم وطبائعهم، تفاوت هيئاتهم، لتعرفوا عجائب قدرة الله بالمشاهدة، ويقوي إيمانكم بالبعث، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ثم الله ينشىءُ النشأةَ الآخرةَ‏}‏ أي‏:‏ البعث، وهذا دليل على أنهما نشأتان‏:‏ نشأة الاختراع ونشأة الإعادة، غير إن الآخرة إنشاء بعد إنشاء، والأولى ليست كذلك‏.‏ والقياس أن يقال‏:‏ كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة، وإنما عدل عنه؛ لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء، بإنه من الله، احتج بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب ألا يعجزه الإعادة فكأنه قال‏:‏ ثم ذلك الذي أنشأ الأولى هو الذي يُنشىء النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ‏.‏ قال النسفي‏.‏

‏{‏إن الله على كل شيءٍ قديرٌ‏}‏؛ فلا يعجزه شيء‏.‏ ‏{‏يُعذِّب من يشاء‏}‏ بعدله ‏{‏ويرحم من يشاء‏}‏ بفضله، أو‏:‏ يُعذب من يشاء بالخذلان، ويرحم بالهداية للإيمان، أو‏:‏ يُعذب من يشاء بالحرص، ويرحم من يشاء بالقناعة، أو‏:‏ يُعذب بالتدبير والاختيار ويرحم بالرضا والتسليم لمجاري الأقدار، أو‏:‏ يُعذب بالإعراض عنه، ويرحم بالإقبال عليه، أو‏:‏ بالاستتار والتجلي، أو‏:‏ بالقبض والبسط، أو بالمجاهدة والمشاهدة، إلى غير ذلك‏.‏ ‏{‏وإليه تقلبون‏}‏؛ تُردون للحساب والعقاب‏.‏

‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي‏:‏ بفائتين ربكم إن هربتم من حكمه وقضائه، ‏{‏في الأرض‏}‏ الفسيحة، ‏{‏ولا في السماء‏}‏ التي هي أفسح منها وأبسط، لو كنتم فيها‏.‏

‏{‏وما لكم من دون الله من وليٍّ‏}‏ يتولى أموركم، ‏{‏ولا نصير‏}‏؛ ولا ناصر يمنعكم من عذابه‏.‏ ‏{‏والذين كفروا بآيات الله‏}‏؛ بدلائله على وحدانيته، أو كتبه، أو معجزاته، ‏{‏ولقائه‏}‏؛ وكفروا بلقائه، ‏{‏أولئك يئِسُوا من رحمتي‏}‏؛ جنتي، ‏{‏وأولئك لهم عذابٌ أليم‏}‏ موجع‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ أَوَلَمْ ير أهل فكرة الاستبصار كيف يظهر الحقُّ تجلياته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم يبطنها، فيردها لأصلها من اللطافة، ثم ينشأها النشأة الثانية، تكون معانيها أظهر من حسها، وقدرتُها أظهر من حكمتها، فليس عند أهل التوحيد الخاص شيء يفنى، وإنما يُبطن ما ظهر، ويُظهر ما بطن، ولا زائد على أسرار الذات وأنوار الصفات‏.‏ وهذا أمر لا يدركه إلا أفراد الرجال بصحبة أكابر الرجال، وهو لُب العلم، وخالصة طريقة ذكر الله، والتفرغ عن كل شيء ما يشغل عن الله، بعد قتل النفوس وحط الرؤوس وبذل الفلوس‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏